تسعى هذه الدراسة إلى معرفة إلى رابعة العدوية، وعلاقتها مع الصوفية،
من حيث ميزاتها الصوفية، وتحديداً الحب الإلهي عندها،
وموقفها من الصوفية والإسلام.
إشكالية الدراسة
إلى أي حدّ يتوافق الحب الإلهي عند رابعة العدوية مع الصوفية والإسلام؟.
وكيف استطاعت رابعة العدوية أن تنال لقب "شهيدة العشق الإلهي"؟.
وما هي الظروف التي حددت سير رابعة العدوية الصوفي ونهجها؟
توطئة
هناك من يقول لماذا لم تظهر الدعوة إلى التصوف في عصر الرسول والصحابة؟ والجواب على ذلك أنّ العصر الأول للإسلام الذي يقف على رأسه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو عصر ورع وتقوى شهد رب العالمين بذلك، قال تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} (سورة الفتح آية 18). وقال الله تعالى بحقهم: {رضي الله عنهم ورضوا عنه}. (سورة البينة، أية
ووصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. وإنّ رسالة الإسلام كما أقرها الله كانت مطبقة في هذا العصر. فمثلاً كان العربي في الجاهلية وبداية عهد الإسلام يتحدث العربية سليقةْ وبعدها بدأ انتشار اللحن فكان لا بد من إنشاء علوم اللغة والنحو، وأن يكون هناك متخصصون فيها.
والصوفية تنبثق من خواص المؤمنين، فهناك مسلمون منهم من يستقيم على أمر الله، ومنهم من ينحرف عن طريق الله وهناك المؤمنون الصادقون، قال الله تعالى بحقهم: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً} [سورة الأحزاب، آية: 23]. وهناك كذلك أهل الإحسان، في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم حينما سأله جبريل عليه الصلاة عن الإحسان فقال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". إن الصوفية: هم طبقة أولياء الله الذين قال الله بحقهم: {إلا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون. لهم البشرى في الحياة، الدنيا وفي الآخرة}[سورة يونس، آية 92]. إذن أولياء الله هم أهل الإيمان والتقوى، وهذا ما أشار إليه ابن خلدون في مقدمته حينما تحدث عن التصوف فقال: "وأهل طريقة هؤلاء القوم العكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد في ما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق، والخلوة للعبادة.. فاختص هؤلاء المقبلون على الله باسم الصوفية [ابن خلدون، ص 329]." وفي تعريف الصوفية يقول أبو علي الروذباري حينما سئل عن الصوفية فقال: "من لبس الصوف على الصفاء، وأطعم الهوى ذوق الجفاء، وكانت الدنيا منه على القفا وسلك منهج المصطفى". وسئل سهل بن عبد الله التستري مَن الصوفي؟ فقال: "من صفا من الكور، وامتلأ من الفكر وانقطع إلى الله من البشر، واستوى عنده الذهب والدرر." وقال يوسف بن الحسين: لكل أمة صفوة، وهم وديعة الله الذي أخفاهم عن خلقه، فإن يكن منهم في هذه الأمة فهم الصوفية. [أبو بكر الكلاباذي، ص21]
وترى الصوفية أنهم أحباب الله، وأصفياؤه وأولياؤه، وصفوة عباده وحراس ينابيعه وآياته، قال الله تعالى بحقهم: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [سورة آل عمران أية 31 ]. ثم يأخذون بالحديث القدسي الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى قال: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يسير عليها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأُعيذنه" [الأحاديث القدسية ص 81].
الحب الإلهي عند رابعة العدوية والصوفية
مدخل:
رابعة العدوية عاشقة الله، أنموذج الحق والقوة، ومقاومة الخوف من البشر، فهذه الدراسة تحاول تسليط الأضواء على امرأة عرفت سرّ الحياة والوجود كانت عابدة لله كما أراد الله.
في هذه الأنوثة الحقّة تكمن صفات الحب المقاوم للضعف الإنساني أمام عبودية الإنسان للإنسان، وعبوديته للناس والأشياء.
فكيف استمدت رابعة العدوية هذه القوّة الخارقة في مقارعة الخوف؟ وكيف استطاعت أنثى بعيدة عن كنف الأب والزوج أن تكون قبلة الزهاد والأولياء والصوفية؟
وكيف استطاعت هذه المرأة أن تكون أقوى من الرجال بحيث أصبحت مضرب الأمثال في كل العصور والأزمان؟
وكيف وصلت رابعة العدوية إلى قمة من دائرة الخوف الإنساني لتكون أنموذج الصبر والتحدي؟
وكيف استطاعت رابعة العدوية مؤدبة عصرها يومّ مجلسها أعلام الرجال، تطلع عليهم أنوار عبوديتها فتخنس شياطينهم، وتنطفي نوازع شرهم؟
وكيف استطاعت رابعة العدوية أن تنال لقب شهيدة العشق الإلهي كما يقول عبد الرحمن بدوي " شهيدة العشق الإلهي"؟
رابعة العدوية
أم الخير، رابعة بنت إسماعيل العدوية البصرية، مولاة آل عيتك، الصالحة المشهورة، كانت من أعيان عصرها، وأخبارها في الصلاح والعبادة مشهورة ولدت بالبصرة سنة 95ه أوائل القرن الثاني الهجري، وعاشت رابعة في القرن الثاني الهجري، وهو العصر الذي ظهر فيه أعلام كثيرون في التصوف منهم الحسن البصري (ت 110ه) وسعيد بن المسيب (ت 159ه) ويحيى بن حي (ت 131ه) والأوزاعي (ت157 ه)، وسفيان الثوري (ت161ه) والليث بن سعد (ت175ه) والشافعي (ت 204ه) والإمام مالك (ت179ه) وسفيان الثوري (ت 198ه) وعبد الله بن المبارك (ت181ه) وابن السماك (ت183) والفضيل بن عياض (187ه) وإبراهيم بن الأدهم (ت 162ه) ومعروف الكرخي (ت200ه) وغيرهم. توفيت سنة 185ه ودفنت ببيت المقدس وقبرها يزار. (انظر ابن خلكان. 2/285-288، ابن الجوزي، 4/27-28).
الطريق إلى المحبة الإلهية عند رابعة:
وترى رابعة العدوية أن الدخول على المحبة الإلهية لا بد من اتباع ما يلي:
الورع
لقد عرفت رابعة العدوية أن الورع هو المدخل الأسنى في الدخول على حضرة علام الغيوب وفي ذلك يقول سهل بن يحيى: "لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يكون فيه هذه الأربع: أداء الفرائض بالسنن، وأكل الحلال بالورع، واجتناب النهي عن الظاهر والباطن، والعبد على ذلك حتى الممات" (القشيري: 1/299). وقد أورد ابن خلكان حكاية عن ورعها وتقواها فقال: قالت رابعة العدوية لأبيها: يا أبت، لست أجعلك في حل من حرام تطعمينه فقال لها: أرأيت إن لم أجد إلا حراماً؟ قالت: نصبر في الدنيا على الجوع خير من أن نصبر في الآخرة عن النار" (ابن خلكان 2/285). فالورع أن تطيب مطعمك فلا تأكل إلا الحلال، وهكذا كان وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين إذ قال: "مثل المؤمن كالنحلة، إذا أكلت لا تأكل إلا طيباً وإذا أخرجت لا تخرج إلا طيباً، إذا وقفت على عود نخر لم تكسره." وقد روي عن الحسن بن يسار قوله: صلاح الدين الورع وفساد الدين الطمع (القشيري1/34).
الصدق
من السمات المهمة في شخصية رابعة العدوية صدقها مع الله, ومع الناس. فالصدق منجاة من كل الآثام, وهي مطلب الأنبياء والصالحين. وفي ذلك ورد في القرآن الكريم قول الله تعالى: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} (الشعراء، آية 84) وقوله صلى الله عليه وسلم: لا يزال الرجل يتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وهكذا فإنها قبلت الصدق مع الله ودونه إن هذا الأمر جعل الآخرين يخافونها ويهابونها. فقد كانت تنصح دون خوف ولا وجل من أحد. دخل على رابعة رباح القيسي وصالح ابن عبد الجليل وكلاب ، فتذاكروا الدنيا فأقبلوا يذمونها فقالت رابعة: إنيّ لأرى الدنيا بترابيعها في قلوبكم، قالوا: ومن أين توهّمت علينا؟ قالت: إنكم نظرتم إلى أقرب الأشياء من قلوبكم، فتكلمتم فيه. (ابن الجوزي4/28). وهكذا كان الصدق في نظر رابعة العدوية كما يقول الغزالي، للصدق معانٍ ستة: صدق في القول، وصدق في النية وصدق في العزم، وصدق في الوفاء، وصدق في العمل وصدق في تحقيق مقامات الدين (عبد القادر عيسى، 302ص).
الزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة
إن من أهم صفات أهل الله الصالحين، والصوفية المخلصين العزوف عن الدنيا وزخارفها، والإقبال بالقلب على الله. وهذا ما عنته رابعة العدوية في ردها على من طلب زواجها. أورد ابن خلكان حكاية عن رابعة العدوية قال فيها: "كان أبو سلمان الهاشمي له بالبصرة كل يوم ثمانين ألف درهم فبعث علماء البصرة في امرأة يتزوجها، فأجمعوا على رابعة العدوية، فكتب، إليها: أما بعد فإن ملكي من غلة الدنيا في كل يوم ثمانون ألف درهم، وليس يمضي إلا قليل حتى أتمها مائة ألف إن شاء الله، وأنا أخطبك نفسك، فأجيبيني، فكتبت إليه: أما بعد فإنّ الزهد في الدنيا راحة القلب والبدن، والرغبة فيها تورث الهمّ والحزن، فإذا أتاك كتابي فهي زادك وقدم لمعادك، وكن وصي نفسك، ولا تجعل وصيتك إلى غيرك وهم دهرك، واجعل الموت فطرك، فما يسرني أن الله خوّلني أضعاف ما خوّلك، فيشغلني بك عنه طرفة عين" والسلام. (ابن خلكان، 2/286).
من هذه الحكاية تفهم رابعة أن المال والجاه والسلطان لا يغيرُها كل ذلك، بل كانت ترى أن الله تعالى قد أعطاها من المحبة والراحة الأبدية أضعاف عطايا مال أبي سليمان الهاشمي. وهي بهذا رفضت أن يشغلها عن الله هذا التاجر الثري وماله.
ولقي سفيان الثوري رابعة – وكانت مزرية الحال فقال لها يا أم عمرو أرى حالاً رثة، فلو أتيت جارك فلاناً لغير بعض ما أرى فقالت له: يا سفيان وما ترى من سوء حالي، الست على الإسلام فهو العز الذي لا ذل معه والغنى الذي لا فقر فيه، والأنس الذي لا وحشة معه، والله إني لاستحي أن أسأل الدنيا من يملكها فكيف أسال من لا يملكها، فقام سفيان وهو يقول: ما سمعت مثل هذا الكلام... (ابن خلكان، 2/286).
الخوف من الله
كانت رابعة تعيش دهرها بين عبادة وذكر، خوف ورجاء وهكذا كان فهم الصوفية وكذا رابعة للخوف: فالخوف هو تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه في المستقبل، ولكن أعظم مقام الخوف، الخوف من الله تعالى، لأن من عرف الله خافه بالضرورة، وفي ذلك يقول الله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (سورة فاطر، آية 28). وأمر المؤمنين بالخوف والخشية منه فقال تعالى: {وإياي فارهبون} (سورة البقرة، آية 40). وقد أورد ابن الجوزي حكاية عن رابعة العدوية وخوفها من الله فقال: قال عبد الله بن عيسى: دخلتُ على رابعة العدوية ببيتها فرأيت على وجها النور، وكانت كثيرة البكاء، فقرأ رجلٌ عندها آية من القرآن فيها ذكر النار، فصاحت ثم سقطت، ودخلت عليها وهي جالسة على قطعة بوري خلق فتكلم رجل عندها بشيء فجعلت أسمع وقع دموعها على البوري مثل الوَكْف ثم اضطربت وصاحت، فقمنا وخرجنا (ابن الجوزي، 4/27). وكانت كثيرة البكاء والحزن، وكانت إذا سمعت ذكر النار غشي عليها زماناُ، وكان موضع سجودها كهيئة الحوض الصغير من دموعها، وكأن النار ما خلقت إلا لأجلها. وحكايات خوفها من الله كثيرة فقد ذكر سجف من منظور: دخلت على رابعة ساجدة، فلما أحست بمكاني رفعت رأسها، فإذا موضع سجودها كهيئة المستنقع من دموعها، فسلمت فأقبلت علي فقالت، يا بني ألك حاجة، فقلت: جئت لأسلم عليك، قال فبكت، وقالت: سترك اللهم سترك، ودعت بدعوات، ثم قامت إلى الصلاة وانصرفت. (ابن الجوزي4/291).
الحب الإلهي
والمحبة الإلهية هي أعلى مقامات الصوفية والصالحين والعارفين، وهكذا كانت تقرر رابعة العدوية فهي ترى أن الحب الإلهي هو إيثار من الله تعالى لعباده المخلصين ومنتهى نهاية الفضل العظيم.
وذكر أبو القاسم القشيري في الرسالة عن رابعة أنها كانت تقول في مناجاتها: "إلهي تحرق بالنار قلبا يحبك، فهتف بها مرّة هاتف: ما كنا نفعل هذا فلا تظني بنا ظنّ السوء". (ابن خلكان، 2/285).
وروى ابن خلكان عن رابعة العدوية قال: وكانت إذا جن عليها الليل قامت إلى سطح لها ثم نادت:
"إلهي هدأت الأصوات، وسكنت الحركات، وخلا كل حبيب بحبيبه، وقد خلوت بك أيها المحبوب،
فاجعل خلوتي منك في هذه الليلة عتقي من النار." (ابن خلكان: 2/286).
ومذهب رابعة العدوية في الحب يسير على الحب الخالص لله دون حاجة من المحبوب. وفي ذلك ترى أن المحبة هي التي تعمى وتعم، تعمى عما سوى المحبوب، فلا يشهد سواه مطلوباً. وفي ذلك تراه تنشد في محبة الخالق:
أحبك حُبين حب الهوى *** وحبا لأنّك أهل لذاكا
فأما الذي هو حُب الهوى *** فشغلي بذكرك عَمّن سواكا
وأما الذي أنت أهلٌ له *** فلست أرى الكون حتى أراكا
فما الحمدُ في ذا ولا ذاك لي *** ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
(الكلاباذي، التعرف لمذهب أهل التصوف ص110).
ورابعة العدوية كانت أول من دعا إلى حب الله لذاته لا رغبة في الجنة، ولا خوفاً من النار، ومن شعرها:
إني جعلتك في الفؤاد محدّثي *** وأبحث جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس مؤانسٌ *** وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي
وقالت أيضاً:
كلهم يعبدون من خوف نار *** ويرون النجاة حظاً جزيلاً
أو أن يسكنوا الجنان فيحظوا *** بقصورٍ ويشربوا سلسبيلا
ليس لي في الجنان والنار حظ *** أنا لا أبتغي بحبي بديلا
(الغزالي، إحياء علوم الدين 4/219) ومحمد عبد المنعم خفاجي (ص 201-202).
وبعد فهذه رابعة العدوية، وهذا هو الأدب الصوفي، أدب الحب الإلهي أدب حافل بالروح والفكر المتجدد، وأدب عميق يحكي التجربة الحية. فالتصوف جزء هام من تراثنا، وتغلبنا على مواطن الضعف والانكسار، ونقلها إلى روح القوة والانتصار.
مصادر البحث ومراجعه:
1- القرآن الكريم
2- الأحاديث القدسية: بلا تاريخ، بيروت، دار المعرفة
3- التسقباني، إبراهيم أحمد بلا تاريخ القاهرة، سلسلة كتب التصوف الإسلامي.
4- ابن الجوزي جمال الدين أبو الفرج بلا تاريخ، صفة الصفوة حققه محمود فاخوري، بيروت، دار المعرفة.
5- ابن خلكان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بلا تاريخ حققه حسان عباس: بيروت، دار صادر
6- خفاجي محمد عبد المنعم (1980) القاهرة، مكتبة غريب
7- ابن خلدون، المقدمة
8- عيسى عبد القادر (1981)، حقيقة التصوف عمان، المطبعة البهية ط4.
9- الكلاباذي، أبو بكر محمد (1980) التصوف لمذهب أهل التصوف، بيروت، دار الكتب العلمية.
10-محمود، عبد القادر بلا تاريخ الفلسفة الصوفية في الإسلام، بيروت، دار الفكر العربي.